تعيش فرنسا منذ مدّة على وقع موجة احتجاجات واسعة أعادت تسليط الضوء على التوتّرات الاجتماعية والسياسية المستمرة، لأسباب عديدة منها ارتفاع نسبة المديونية العامة التي بلغت ما يناهز 114 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي ممّا استوجب اعتماد سياسات تقشفية لتعبئة موارد مالية إضافية لميزانية الدولة تقدّر بحوالي 44 مليار يورو مع تراجع الخدمات العامة وتصاعد الاستياء الشعبي تجاه الحكومة.
نهاية الحكومة الرابعة لماكرون منذ انتخابات (2022)
في التاسع من جوان 2024، قرّر إيمانويل ماكرون حلّ البرلمان وإعلان انتخابات تشريعيّة بعد هزيمة حزبه في الانتخابات الأوروبية، وحينها تصدَّر تحالف اليمين المتطرّف الانتخابات، في مفاجأة لماكرون ولمارين لوبان على حدّ سواء. ولم يُعيِّن آنذاك رئيس وزراء من اليسار، بل اختار فرانسوا بايرو في سبتمبر العام الماضي.
السيناريو ذاته تقريبا يتكرّر في الثامن من سبتمبر 2025، قبل أن يُكمل بايرو عاما واحدا في رئاسة الوزراء حيث سقط في تصويت سحب الثقة في البرلمان الفرنسي، بسبب خطط الحكومة لكبح جماح الدين العام المتضخم، لتُكتب بذلك نهاية الحكومة الرابعة منذ انتخاب إيمانويل ماكرون رئيسا لفترة ثانية عام 2022.
رئيس الوزراء الفرنسي السابق فرانسوا بايرو

وصوّت 364 نائبا لصالح حجب الثقة، بينما أبدى 194 فقط تأييدهم لبايرو الذي تولى منصب رئاسة الحكومة الفرنسية قبل 9 أشهر فقط. ليُقرّر ماكرون بعد أيّام قليلة، تعيين وزير الدفاع سيباستيان لوكورنو رئيسا جديدا للحكومة. وبذلك أصبح لوكورنو سابع رئيس للوزراء في عهد ماكرون، والخامس منذ بداية ولايته الثانية في العام 2022. وهذا الأمر غير مسبوق في نظام الجمهورية الخامسة الذي أُعلن في 1958 والذي عُرف لفترة طويلة باستقراره.
فرنسا تغرق في أزمة اقتصادية خانقة.. جذورها
• سياسات مثيرة جدل
لا تعيش فرنسا أزمة سياسية فحسب، بل تواجه أيضا أزمة اقتصادية خانقة بدأت تؤثّر مباشرة على حياة المواطنين اليوميّة. حكومة فرنسوا بايرو ورثت تحديات كبيرة لم تستطع معالجتها، في حين مهّد ماكرون هذا الطريق المتأزم بعدد من السياسات المثيرة للجدل منذ انتخابه عام 2017.
من بين هذه السياسات، تخفيضات ضريبية واسعة لم تترافق مع تخفيض مماثل في تكاليف الرعاية الصحية والتعليم والخدمات العامة، حيث أُلغي ضريبة الثروة والسكن، وخُفضت ضرائب الشركات، وفرضت ضريبة موحدة على أرباح رأس المال. النتيجة لم تكن “حلما فرنسيا” كما تصوّر البعض، بل حرمان الدولة بحلول عام 2023 من 62 مليار أورو من الإيرادات الضريبية السنوية، أيّ ما يُعادل 2.2% من الناتج المحلي الإجمالي، مع ارتفاع الدين الداخلي إلى 3.35 تريليون أورو، متجاوزا حجم الناتج المحلي نفسه.

هذه التخفيضات الضريبية، التي جعلت من فرنسا إحدى أكثر الوجهات جذبا للاستثمارات الأجنبية في أوروبا وساعدت على خفض البطالة بنسبة 7%، لم تخلُ من عواقب لاحقة. فقد أدّت إلى سلسلة من الأزمات الاقتصادية التي ضربت البلاد، بداية بأزمة السترات الصفراء التي كلفت ماكرون 17 مليار يورو لتهدئة الاحتجاجات الشعبية، مرورا بآثار جائحة كوفيد-19 التي أضافت حوالي 42 مليار أورو إلى النفقات الحكومية، وصولا إلى الغزو الروسي لأوكرانيا الذي ساهم في ارتفاع أسعار، ما دفع الحكومة إلى تقديم 26 مليار أورو على شكل إعانات لدعم الطاقة.
ورغم ذلك، رفض ماكرون زيادة الضرائب أو تقليص المخصّصات الاجتماعية، ورأى أنّ من الحلول الممكنة رفع سنّ التقاعد إلى 64 عاما بحلول عام 2030، ما يوفر 17.7 مليار أورو ويضيف عامين إضافيين من العمل قبل بلوغ المعاش للفرنسيين.
• أزمة التقاعد والخدمات العامة.. ملفات عالقة لحكومة بايرو
وعند وصوله إلى رئاسة الحكومة، وجد بايرو نفسه أمام ملفات صعبة، أبرزها ملف التقاعد. ففي جانفي الماضي، وعد بإعادة النظر في قرار رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلاّ أنّ أربعة أشهر من المفاوضات لم تسفر عن أيّ اتفاق مع النقابات وأرباب العمل. حتّى التعديلات البسيطة المتّفق عليها، مثل تحسين حقوق النساء أو تخفيض طفيف في سنّ إلغاء الخصم من المعاشات، لم تُعتمد.
هذا الجمود السياسي أدى إلى تأجيج الغضب النقابي، وعاد الحديث عن الإضرابات كوسيلة للضغط على الحكومة وإحراجها، مما ساهم في زيادة حدة الأزمة السياسية والاجتماعية في البلاد.
رئيس الحكومة الفرنسي الجديد سيباستيان لوكورنو

وقد قدّمت الحكومة الفرنسية أيضًا أداءً ضعيفا في الخدمات الصحية، حيث سجل القطاع الطبي عجزا بلغ 23 مليار أورو عام 2025، وغرقت المستشفيات في الديون حتى وقفت على حافة الإفلاس. وكان قطاع الطب النفسي، الضروري لمواجهة معدلات الأمراض النفسية والانتحار المرتفعة، أحد أبرز ضحايا هذا التقشف.
مشروع الميزانية يُشعل فتيل الأزمة
قبل سحب الثقة من حكومة بايرو، كانت فرنسا على موعد مع جلسة لتبني ميزانية العام الجديد. اقترحت الحكومة تخفيض الميزانية بمقدار 44 مليار أورو، وإلغاء بعض أيام العطل لدفع المواطنين للعمل أكثر، وهو ما أثار حفيظة الشعب والمعارضة على حدّ سواء. فقد اعتبر الفرنسيون أنّ لا مبرر لهم لدفع ثمن إدارة مالية سيئة للحكومات السابقة تحت قيادة ماكرون، خاصة بعد الإنفاق الضخم الذي قامت به فرنسا لدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، ما أرهق الاقتصاد الوطني وزاد من الاحتقان الشعبي.
ففي خطوة وصفتها المعارضة وشرائح واسعة من الفرنسيين بـ”الاستفزازية”، اقترح فرانسوا بايرو، إلغاء يومين من العطل الرسمية، إثنين الفصح، الذي اعتبر أنّه “فقد رمزيته الدينية”، ويوم الثامن من ماي، الذي يخلد فيه انتصار الحلفاء على النازية. وتضمنت التوجهات التي عرضها بايرو تجميد نفقات الرعاية الاجتماعية والشرائح الضريبية لعام 2026 عند مستويات عام 2025، دون تعديلها لمواكبة التضخم، ما يعني تراجعا في القدرة الشرائية للفرنسيين، حسب مراقبين.
هذه الإجراءات أثارت انتقادات حادة من مختلف أطياف المعارضة، من اليسار إلى اليمين المتطرف، معتبرين أنّها تمس “بالأجور الأساسية، وتحمل الطبقات المتوسطة والفقيرة عبء التقشف”، مقابل زيادات ملحوظة في ميزانية الدفاع.
فرنسا – احتجاجات 10 سبتمبر 2025

“لنغلق كلّ شيء”..!
تزامنًا مع بدء مهام وزير الجيوش سيباستيان لوكورنو، الذي كلّفه إيمانويل ماكرون بتشكيل الحكومة الجديدة، اندلعت الأربعاء احتجاجات حاشدة تعكس الغضب الشعبي تجاه سياسات ماكرون. وقد أدت هذه الاحتجاجات، التي تطلق على نفسها حركة “لنغلق كلّ شيء”، إلى تعطيل حركة المرور واعتقال عشرات الأشخاص، مع انتشار مكثف لقوات الأمن في مختلف المدن.
وترجع جذور هذه الحركة الاحتجاجية إلى “التعبئة الرقمية” عبر المنصّات التفاعلية ووسائل التواصل الاجتماعي، والتي أُطلقت منذ شهر ماي الماضي، واكتسبت زخما أكبر مع طرح حكومة فرانسوا بايرو لخطط التقشف في جويلية، ودعوة حزب “فرنسا الأبية” اليساري المواطنين للنزول إلى الشوارع.
ولا تقتصر التعبئة على المواطنين المتفاعلين عبر الإنترنت، بل امتد الغضب أيضا إلى النقابات والأحزاب، حيث تسعى بعض المجموعات إلى تجاوز المطالب الاجتماعية لتصل إلى الطعن في ميزانية 2026 والحكومة نفسها. وعلى المستوى النقابي، تشمل دعوات التحرك “اتحاد المناجم والطاقة” التابع للاتحاد العام للعمال، الذي لوح بالإضراب منذ بداية الشهر، إلى جانب نقابتي عمال قطاعي الكيميائيات وتجارة التجزئة.
احتجاجات 10 سبتمبر 2025

واتخذت نقابة “القوة العمالية”، الخطوة ذاتها اعتراضا على التدابير المالية، كما تنظر في شنّ إضراب في مستشفيات باريس. ووجّه كذلك اتحاد عمال السكك الحديدية نداء إلى منخرطيه للتعبئة بمناسبة تحرك يوم 10 سبتمبر. من جانبه، قرّر اتحاد سيارات الأجرة لشل حركة المرور في المطارات ومحطات القطارات وفي الحدود وفي محطات توزيع الوقود، وحتى شارع الشانزليزيه وسط باريس، احتجاجا على الأسعار الجديدة لقطاع النقل الطبي.
ومع ذلك، لا تبدو هذه الأجواء المشحونة جديدة على شوارع فرنسا، حيث أعادت عمليات التعبئة إلى الأذهان حركة “السترات الصفراء”، قبل سبع سنوات واحتلت الشوارع لأسابيع طويلة.
بين السياسات الاقتصادية المثيرة للجدل، والتوتّرات الاجتماعية والسياسية، والاحتجاجات، تجد فرنسا نفسها اليوم في مفترق طرق، فالحراك الشعبي الحالي يبدو أنه ليس مجرد انفجار غضب عابر، بل انعكاس عميق لأزمة مركبة تهدّد استقرار الحكومة برمتها، وتضع مستقبل البلاد في مواجهة تحديات كبيرة. فهل ستتمكن الحكومة الجديدة من احتواء الغضب وإصلاح مسارها، أم أنّ الاحتجاجات ستعيد رسم المشهد السياسي بالكامل؟..
Tweet